الكتب العتيقة

أحب أن أجمع الكتب خصوصاً العتيقة والمستعملة. لا أعرف من أين ورثت هذه العادة، كلما شعرت براحت البال، أذهبت أفتش عن كتاب عتيق، أجد لذة في دفع ثمنه، أكثر من شراء سندوتيش،
 ومرات أنتبه كثيرا إلى كتب عتيقة اقتنيتها وسبقني أناس إلى قراءتها من خلال وضع اشارات وخطوط حول جمل محددة. 
لم يطل مكوثي كثيراً في البيت الجديد، حتى تراكمت الكتب في المكتبة المركونة في الصالون المطل على البحر، تكدّست الكتب خلال أشهر، الكتب أشبه بكائنات غريبة غير مرحب بها، برغم أني احبها، وتتآلف مع بعضها برغم تناقضاتها على رف واحد، لحية ماركس الى جانب الخميني وأبو نواس بجانب سيد قطب.

أحب أن أقرأ الكتب أيضاً، لكن في كل مرة أجد نفسي حيرة أي كتاب أقرأ، أو ربما اصاب بالجوع، فأقرأ ثلاثة أو اربعة كتب في وقت واحد، كلما دخلت الحمام أصطحب معي كتاباً، كأن الحمام المكان الأنسب لأراقب الكلمات،

برغم أني أقرأ كثيراً، لكن حين أنظر الى المكتبة أشعر كأني لم أقرأ شيئاً، كأن كل ما أقرأه يطير في الهواء، منذ امتهنت الكتابة، ضاعت متعة القراءة، أقرأ كثيرا وكأني لا أقرأ شيئاً، ولا يبقى سوى الفتات، أسأل في قرارة نفسي لماذا بقيت في مخيلتي كتب "الفضيلة" للمنفلوطي وأشعار مجنون ليلى، وفروسية عنترة.



تكدست الكتب في المكتبة، 
في تلك الليلة، سقط
بعلي لا تحب كتبي، وهي تنظر إليها كأنها تحتل مساحة من البيت، 
في ذلك  
في ذلك المساء، حين قرر الرجل ذو القبعة السوداء الذي كان في كتابة يومياته، هبت العاصفة "أولغا" باردة من سيبيريا الروسية، غيوم ضخمة غطت السماء ووصلت إلى لبنان على عجل، غيوم لا نعرف كيف تتجمع فجأة، غيوم هطلت ثلوجاً فوق السهول والجبال ووصل ثلجها إلى السواحل، والصقيع يقيد أصابعي من الحركة، غيوم سبقها برق صاعق ورعود كانت أشبه بسقوط السماء وتفجرها. الرجل ذو القبعة، يجلس في شقته الصغيرة، قبالة البحر يحتسي الشاي الأسود، السماء في مخيلته صارت شظايا أو انكسرت مثل زجاج مصقول، الأرض كأنها انشقت، السيول تحمل معها الأوحال والقناني الفارغة والنفايات تدخل البيوت في بعض المناطق، السيول تجرف الأتربة والخشب وتدخل البيوت المبنية على عجل في ضواحي المدينة، تلك البيوت المتهالكة التي يمكن سقوطها على رؤوس أصحابها، صراخ النساء في العاصفة لا يرد تدفق مياه الأمطار، كاميرا التلفزيون تحب صور الخراب، تصوِّر كل شيء.
مع أني احب الشتاء والمطر، بدأت مرتبكا في تلك اللحظات، وضعت القبعة السوداء على رأسي وجلست وجلست على كرسي عتيق، قبالة البحر أحتسي الشاي الأسود، ومنزعجا من دلف قليل ينسرب من سقف صالون بيتي، يخاف على كتبي من الرطوبة. اتخيل ماذا سأكتب الآن، يختلط خيالي بالغيوم الطويلة والكثيفة العابرة فوق البحر والبابسة، لم تكذب توقعات الطقس في ذلك المساء، قالت المذيعة بثوبها القصير إن ثمة عاصفة ثلجية ستصل من روسيا ووصلت. تصرف بعض الشبان كأنهم يرون الثلج للمرة الأولى في حياتهم.
أولغا أتت شرسة من روسيا، أجلس أنا الرجل ذو القبعة على الكنبة، أنظر إلى شاشة التلفزيون كما العادة، أسمع اسم العاصفة أتخيل حبيبة الشاعر إلياس أبو شبكة، كل فتاة روسية في مخيلتة هي أولغا. هل تكون أولغا العاصفة مثل امرأة... كل امرأة روسية هي عاصفة بمفاتنها. نساء الأولغا كن يدمرن الرجال في شارع المعاملتين، كن مثل احصنة تقودها اجنحة، نساء يقال انهن الرقيق الأبيض بأجساد نضرة أقوى من العاصفة.
أولغا أتت شرسة من روسيا، الرطوبة تخترق عظامي في غرفته المطلّة على البحر، الصقيع يلسع دمي، صوبيا الغاز في زاوية الصالون لا تعطي حرارة جيدة، أتغطى بحرام سميك، أشعر بضيق في التنفس، وتشنج في عضلات كتفى اليسرى، اتذكر ذلك الرجل الذي يخبرني أن ابنه يرقص عارياً في عز البرد، يروح ويجيء في الصالون حاملاً أقلام الحبر بيده كما لو أن شيئاً لم يحصل في الخارج، ابنه يرتدي الحفاض فحسب ويرقص عارياً ولم يشعر بالبرد، يقال أن الطفل يشعر بالدفئ من وبر جسمه.  يرقص الطفل قبالة التلفزيون ولا يرد على اصوات أمه، يشعر بمتعة كبير حين يتابع الإعلانات الراقصة، في كل لحظة كان يعيش لمزاجه، وأمه قلقة لأنه لم يتكلم حتى الآن، وحين اخذه إلى الطبيب قال: "إن تأخر الطفل في الحكي من الأمور العادية". سمعت كلام الطبيب ولكنها لم تكن مطمئنة، مضى أكثر من سنتين عمر الطفل ولم يقل كلمة "بابا"، ولم يجرب أن يأكل غير الحليب...
أسكب ما تبقى من الشاي الأسود،  المطر يسقط غزيراً فوق كرم الزيتون، المطر يهدر هديرا كالنهر، مرأب السيارات في المبنى أصبح مستنقعاً، عواء الكلب يصل خفيفاً من بعيد، حائط الدعم لدار المبنى يتصدع ويحدث صوتاً. المطر يسقط غزيراً على زجاج النافذة، نقاط الماء تنسرب كسهم، صوت المطر يشتد على الأرض وسطح المبني، الشق الصغير في سقف الصالون يدلف قليلاً، يتوجس الرجل من أن تصل المياه إلى كتبه، يلعن ساعة شراء هذه الشقة.
الكاميرا ترصد الثلج على المرتفعات، الجرافات تحاول منع قطع الطرق.
الثلج يسقط بغزارة فوق الجبال، الطرقات مقفلة منذ المساء، عظامي تسك من البرد، يشعر بكآبة من الزجر في البيت، "أولغا" مستمرة لأيام بشراستها، الكآبة مستمرة أيضاً، أشعر الرجل بضيق في التنفس مع أنه دائماً كان يحب المطر والثلج.
العاصفة مستمرة.
علي مات في اليوم الثاني للعاصفة، علي قتلته أولغا في ذلك الليل البارد على درج بارد. علي اختفى، استغرب غيابه طلاب الجامعة في شارع بلس، فتشوا عنه وجدوه ميتاً على درج المطعم. بقيت لسنوات أراه في الشارع وأفكر كيف ينام؟ ولم أر المكان الذي ينام فيه إلا لحظة موته، لم أره في الواقع رأيته في الصورة، والصورة تكذبه، لم ار نومه، كان في الصورة ميتاً لا يتنفس.
علي مات من الصقيع، أو وجدوه ميتاً على الدرج.
علي قتلته "أولغا"، وأولغا تجهل من هو علي، أولغا لم تكن تريد قتله لكنه مات... علي لم تقتله "أولغا" ولا تعرف من هو، الأعمار بيد الله، هكذا تقول الحكاية، علي قتله الله، بل قتلته الطبيعة. زليخة كانت تحب ان تعطي علي سيجارة في شارع الحمرا، تحب ان تعرف حكايته، وهي في كل مرة تسأل الرجل ذو القبعة عن اصله وفصله لا تجد جوابا مقنعاً، وغالباً ما يكون سؤالها أين ينام، وحي علمت أنه يمضي وقته في العراء، شهقة وقالت: "حرام، الله يلعن هالحياة".
علي حكاية ضائعة، قيل انه أستاذ جامعي في الرياضيات، بل حائز شهادات في الهندسة، وقيل إنه لبناني لا بل أردني من أصل فلسطيني، إنه علي العبد لله بل طوني فرسوخ... حكايا وقصص تداولها اطلاب الجامعة ورواد الحمرا إثر وفاته، غير أن الحقيقة هي أنه رجل متشرد، مأواه الرصيف... كان يفترش الأرض في شارع بلس... عصف به الصقيع، خطفت العاصفة الروسيّة حياته مخلفة وراءها حكايات متضاربة.
محطات التلفزيون منشغلة بسقوط الثلوج على المرتفعات المناطق، السيول والأتربة والقناني الفارغة والنفايات تدخل البيوت في الضواحي، الناس يشتكون الدولة، الوحل يغطي البلاط ويدخل غرف النوم، وعلي مات على الرصيف قليلون عرفوا من هو. إلا أن وجوده الدائم نسج الروايات الكثيرة حوله. فالبعض قال إنه كان بروفيسوراً في الرياضيات فقد عائلته خلال الحرب الأهلية ومعها رزانة عقله، والبعض الآخر يشيد بثقافة عالية تمتع بها، قربت إليه مثقفي الشارع الذين جالسوه لساعات من دون ملل. قالوا إنه مسيحي واسمه طوني فرسوخ، مكرم ربح صديقي يقول إنه مسلم وكان يناقشه بالقرآن، متعلم لكنه ليس أستاذاً.
قبل أن يبدأ الرجل ذو القبعة في الكتابة، مات علي الذي يفترض أنه سيكون بطلاً من أبطال رواية، مات في ذلك اليوم البارد على بلاط بارد في مدينة قاتمة، مات وفي يده سيجارة أخيرة لم تشتعل، ولم تحترق.
كان علي أكثر صموداً من الرجل ذو القبعة، في منطقة رأس بيروت، مات على الرصيف ولم يرحل من شارع بلس، مات من البرد هناك على الدرج ولم يرحل. شاهد كل المعارك التي حصلت ذلك المكان، وكل الحواجز والانفجارات
كان علي أكثر قدرة من الرجل ذو القبعة في الاحتفاظ بفرديته وحريته، يعرف باسمه الأول من دون عائلته، من دون منطقته أو دسكرته.
طوال تلك السنوات التي كان الرجل ذو القبعة يرى علي، على الرصيف قبالة الجامعة كنت يسأل أين ينام في لياليه، وأين يقضي حاجته، تلك الأمور العصية التي تربكه في الشارع، ربما لهذه الفرادة صارت رواية "الحمامة" لباتريك سوزكيند أهمية بالنسبة إليّه. علي لم يشرب النبيذ مثل بطل الحمامة، كان ينفث الدخان فحسب، لم يشاهده يأكل حتى.
طوال السنوات التي رأى فيها الرجل ذو القبعة علي، لم يعرف أصله وفصله، بقي رواية أو حكاية، قيل الكثير حوله وبقي غامضاً.
كان علي يحافظ على لوكه كأيقونة للشارع، يرتدي الجينز الواسع والمتسخ ويترك لحيته الشائبة والكثة ويحمل سيجارة ويشرب فنجان قهوة. كان ينفث الدخان ويشرب القهوة بفناجين بلاستيكية أكثر مما يأكل، يجلس على الرصيف ولا يزعج أحداً، مرات قليلة يسأل العابر إذا كانت بحوزته سيجارة أكثر مما يطلب.
علي في تشرده كان أكثر طمأنينة من الذين يجلسون في المقهى يتأمل العابرين كما لو أنه في فيلم سينمائي،  مات علي من دون أن يعرف أحد من أين أتى، ومن هم أهله، وأين كان منزله؟ كان الأكثر غفلة في مدينة تضج بالهويات والدسكرات، وحده اسم علي كان يدل على شيء ما لكنه كان اسماً عارياً.
ومات علي وفجأة صار مثل لحظة كربلائية في المدينة، قال المغني اليساري إنه الرمز الحقيقي للوطنية في لبنان، ... صورة علي تنتشر على الفايسبوك بشكل مفاجئ، صورة أيقونة الشارع تخرج من عزلتها. علي لم يدخل الفايسبوك من تلقاء نفسه، لم يفتح صفحة له، بل صار نجماً من نجوم الفسابكة.
علي من هو.؟ من أين أتى، قالوا انه فقد عائلته في الحرب، فتشدر على ارصفة شارع الحمرا.

علي صار حكاية كل رواد شارع الحمرا.
لم ار علي، منذ غادرت شارع الحمرا، ويوم بدأت الكتابة في ليلة العاصفة قرأت أنه مات، الكتابة والموت لا ينفصلان، فرحت يستذكر الماضي الذي يمضي،
                                                                                                                            
 قبل ان أبلغ الثلاثين، لم يعد لدي رغبة في الجلوس مطولاً في المقاهي، ولا في الترحال في مسافات بعيدة، لكني كنت مجبراً كل يوم في الذهاب الى العمل مسافة طويلة، وعلى إلقاء التحية على موظفين بالكاد أعرف اسماء كنيتهم، في الطرق تعلمت أنواع الشتم والسباب من خلال قيادة السيارة،
 .
 حين قررت كتابة رواية، أجد نفسي عاجزاَ عن كتاب حبكة روائية حول بطل محدد، أفكر برواية بلا أبطال، أو رواية بعشرات الأبطال وعشرات الحكايات، أو رواية بأبطال تشبه افلام كرتون. تزعجني رواية البطل الواحد. أكتب عن نفسي فأجد في ذلك مبالغة، وأكتب عن الآخرين فأغرق في التكرار، أكتب عن ابني فأحسب نفسي أعتدي على حياته، واعجز عن وصف حركاته، أما زوجتي فلا تحب الكتابة ولا قراءة الكتب، كنت أجدها مرتاحة أكثر مني في هذا الشعور.




كان علي أكثر صموداً مني في غفلته ومدينته.

 يجلس الرجل برغم أني لم أصل الى الأربعين من عمري، وصار لدي طفل يكاد يشبهني في كل شيء، بدأت أشعر باليأس والقنوط، وتنتابني مسحة سوداوية من كل شيء. كأن غراباً يغط على أصابعي، بات الموت الذي كان غائباً عن يومياتي حاضراً بقوة في سنواتي الأخيرة، صرت أتحسس ما اذا كان قلبي مازال يخفق، أرى تمساحاً في المجلى، وديناصوراً في البراد، أما سبب ضعفي في الحياة فهو احترافي الكتابة، بات عليّ أن ادوّن اتفه عارض في حياتي،
 أرى كل الأشياء من حولي كائنات كتابية، بل لا أستسيغ أي شيء ليس فيه مادة غاوية لكتابتها ذات مساء، الناس بشكل أو بآخر هم حكايات، والأحداث ذاكرة وربما ذكريات. اشعر بالاحتضار لمجرد اني اعمل في الصحافة واكتب مقالات عابرة في الجريدة، ربما كنت أتوهم أن في الكتابة وسيلة للخلود، لكن وجدت أنه يطغى عليها طابع السذاجة والحمق والجنون.............

أحب سقوط المطر لأقرا، 
,,,,,,,,,,,,,,,

العقل مأزق الوجود، الشجرة اكثر سعادة من البشر...
... كيف سيكون كريم في المستقبل، أحاول ان اتخيله من جديد؟ لم 

000
الكلمة جين سينطقها ستكون مثل جوهرة، يوم قلت له قل لهم باي، نظرة بعينين واسعتين، وابتسامة عريضة، لوجه بيديه الاثنتين، شعرت بالدهشة، سرت دمعة على اطراف رموشي، ومشيت,
.................


تنزعج مني صديقتي لأني أحب الكتب.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق