خلي

خليل عكاوي (1955-1986)
في أيار 1958 قامت "الثورة الشعبية" في طرابلس (ولبنان طبعًا) ضد حكم الرئيس كميل شمعون وعلى وقع الارتباط العاطفي بالوحدة المصرية-السورية ومع القائد جمال عبد الناصر.."وخلال ثلاثة اشهر من الثورة والحصار كان المسلحون هم سادة الموقف في الأحياء الداخلية؛ ولم يخلُ الأمر من مُثل حملها الحزبيون من الثوار لكن الثورة تلك أحيت تقاليد القبضايات التي كادت المدينة أن تنساها. كان القبضايات أعداء تقليديين للدولة ولكل سلطة. وفي أزمات سابقة كانوا يبسطون نفوذهم الصغير في الأحياء الداخلية ويعتاشون من "الخوة" والتهريب. وقد جاءت الثورة لتنعش ذاكرتهم وأنماط عيشهم لبرهة من الزمن" ...
وكان لمدينة طرابلس "أسبابها للثورة على الدولة. فقد جربت نزالًا أخيرًا مع الدولة ولم يكن آنذاك قد مضى قديم عهد على ارتضاء أهل المدينة أمر انتسابهم إلى الدولة التي ناصبوها العداء زمن الانتداب، وخاب ظنهم بها عهد الاستقلال. لذا فإن الحزبية العروبية في إحدى وجوهها كانت شكلًا من أشكال عداء المدينة للدولة، إلى جانب الزعامات المحلية وشباب الأحياء وقبضاياتها" .
في الستينيات من القرن الماضي، وبحسب دراسة ميدانية عن العالَم الاجتماعي لـ"مشيخات الشباب" منذ نشوئها في باب التبانة، (كتبها الباحث الفرنسي ميشال سورا )، أسس علي عكاوي (وهو من أصل فلسطيني وشقيق خليل عكاوي البكر الذي سيصير أحد مؤسسي حركة التوحيد الإسلامي)، "منظمة الغضب" التي جمع فيها شبانًا من باب التبانة، محولًا "غضبهم" عصيانًا اجتماعيًا، قوميًا عروبيًا، ضد سلطات الدولة اللبنانية، وجعل "الموت في سبيل الشعب" شعار هذه المنظمة. وكان علي محررًا في دار الصياد قبل أن ينتقل إلى العمل الثوري المسلح..وبحسب رفاق التجربة فقد كان إسم المنظمة في البداية كان "خمسة ثائرون" . خاضت "منظمة الغضب" معارك ضد شركة الكهرباء، كلما حاولت تحصيل فواتير الكهرباء المستحقة من الأهالي. كما ضربت في بعض الأحياء من كانت تسميهم "عملاء الشرعية"، أي رجال قوى الأمن الداخلي وجهاز مخابرات "الشعبة الثانية". ومن أعمال المنظمة أيضًا، قيامها باعتماد ما يسميه الباحث الفرنسي "اللصوصية الاجتماعية" أسلوبًا "نضاليًا" لممارسة الحقد الطبقي والشعبي، ولتمويل التنظيم مثل تفجير مصرف ونهبه، ونهب صيدلية ومتاجر للمواد الغذائية، وصولًا إلى القيام بانتفاضات منظمة تجلت أخيرًا في إعلان 15 تشرين الأول 1971 "يومًا للغضب الشعبي". 
استطاعت القوى الأمنية اللبنانية تصفية "منظمة الغضب" في مطلع السبعينيات من القرن الماضي بمعاونة النظام السوري وذلك كان أول دليل على ارتباط الرئيس اللبناني الجديد (يومها) سليمان فرنجيه بعلاقة خاصة مع الرئيس السوري الجديد (يومها أيضًا) حافظ الأسد (وصل كلاهما إلى السلطة في شهر أيلول 1970) سمحت له بهذا الطلب وببداية التعاون الأمني بين الأسرتين والبلدين لمواجهة الامتداد الفلسطيني المثير لرعب البعث السوري كما لقلق النظام اللبناني..وهكذا تبادل الرئيسان "خدمات" مؤقتة وعابرة، ذهبت ضحيتها "منظمة الغضب" و"شيخ شبابها" علي عكاوي الذي اعتُقل وسُجن سنة 1972 وتوفي في زنزانته بسجن القبة يوم 15 حزيران 1973، بعدما قاد حركة احتجاج داخل السجن. وقيل وقتها إن المكتب الثاني دسّ له السّم في الطعام. وقد تابع شقيقة الأصغر خليل مسيرته "النضالية" مع منظمة "فتح"، ضد من اعتبرهم قتلة أخيه: الدولة اللبنانية ونظام حافظ الأسد البعثي في سورية.
ومن بؤر "اللصوصية الاجتماعية" (بحسب ميشال سورا الذي يروي سيرة خروج هذه البؤر الطرابلسية على الدولة اللبنانية وقوانينها)، بؤرة ما سُمي بـ"دولة المطلوبين" في المدينة القديمة من طرابلس وأسواقها. وهي "الدولة" التي كان أحمد القدور رمزها الأبرز و"شيخ شبابها"، وقد قام الجيش اللبناني بالقضاء عليها بعدما حاصرها طوال شهر كامل من سنة 1974، فخرج بقايا شبانها من أسواق المدينة القديمة ولجأوا إلى أحياء شعبية في طرابلس: السويقة، ظهر المضر، القبة، وباب التبانة الذي كانت "مشيخة شباب" خليل عكاوي قد استعادت نشاطها وضاعفت قوتها فيه على إيقاع مقدمات الحرب الأهلية اللبنانية. وهكذا تحولت "منظمة الغضب" وتراثها إلى تنظيم جديد اسمه "المقاومة الشعبية" نشط لـ"حماية المقاومة الفلسطينية" وللدفاع عن "كرامة" طرابلس و"هويتها" و"ذاكرتها" و"أصالتها" . 
تزامن تأسيس حركة «المقاومة الشعبية» في طرابلس مع اندلاع الحرب الأهلية عام 1975، وقد ارتكزت في أسسها الفكرية وعناوين تحرّكها على خلفية يسارية أقرب إلى الماركسية الماوية، ورفعت شعارات المقاومة ووحدة الشعب والوحدة العربية ودعم الثورة الفلسطينية. وكان واضحًا تأثر الحركة بالناصرية وبالماوية من جهة وارتباطها بحركة فتح من جهة أخرى. 
وعشية دخول لبنان في الحرب الأهلية (1975) انتقلت الانتفاضات الطرابلسية من الحارات القديمة والأسواق الداخلية إلى باب التبانة وهي عمران عشوائي من ريفيين وقدامى فقراء الحارة...وقد بحث ميشال سورا هذا الوضع الجديد من خلال إشكاليته البحثية التي تقوم على أن المقاومات الشعبية الناشئة في باب التبانة (مع علي ثم خليل عكاوي: الغضب ثم المقاومة الشعبية) نقلت علاقات الحارة وعصبيتها الأهلية من الحارات والأسواق القديمة إلى حي العمران والتكدس العشوائيين. ورأى سورا أن الرابطة أو العصبية الداخلية الجامعة لشبان الحارة هي انشدادهم إلى شيخ شباب منهم وتحلقهم حوله لجمعه في شخصيته صفات النخوة والشجاعة والإقدام والذود عن أهل الحارة إضافة إلى انحداره إسمًا ونسبًا من مشيخة شباب سابقة وصلته بالثورة الفلسطينية (بعد الصلة بالناصرية). وقد نحت ميشال سورا مصطلح الحارة/الأمة كمفهوم أساسي لفهم الانتفاضات الدائمة في باب التبانة . هذه الحارة/الأمة كانت عروبية أيام عبد الناصر (1958-1968) ثم عروبية فلسطينية أيام فتح (1968-1979) ثم إسلامية منذ انتصار الثورة الإيرانية (1979) وتأسيس حركة التوحيد (1982) ثم إسلامية سنية سلفية في مرحلة المواجهة الشاملة مع النظام السوري.
مع دخول الجيش السوري إلى طرابلس في نهاية حرب السنتين العام 1976، كان خليل عكاوي قد لجأ إلى مخيم البداوي الفلسطيني على تخوم المدينة، واحتمى فيه من مطاردات الجهاز الأمني السوري. وحتى العام 1979، عاش مقاتلو هذه "المقاومة" في حال من الخوف جراء قيام المخابرات السورية بمطاردتهم، واعتقالها بعضهم في بيوتهم، واغتيالها آخرين منهم. وقامت القيادة العسكرية والأمنية السورية بإنشاء منظمة أمنية وعسكرية في حي بعل محسن الذي أخذ يتحول معقلًا سكنيًا للعلويين في مواجهة باب التبانة ذي الغالبية السكانية السنّية. أخيرًا، وفي خضم الصدامات العسكرية المتكررة بين الحيّين المتقابلين، عاد خليل عكاوي إلى معقله، وقام بتنظيم "المقاومة" ضد بعل محسن. .
وفيما بعد تأثر خليل عكاوي بالثورة الإسلامية في إيران وهو ما دفع «المقاومة الشعبية» إلى إجراء مراجعة فكرية. فشارك أبو عربي في نهاية السبعينيات ومطلع الثمانينيات من القرن الماضي في جلسات النقاش والحراك الفكري التي أفضت بجميع تلك النخبة النضالية إلى اعتناق الإسلام كفكر سياسي وإيديولوجي تغييري . وبعد جلسات نقاش فكرية ودراسة الواقع المحلي والإقليمي بشكل معمق عقب الاجتياح الإسرائيلي للبنان خطا خليل خطوة غيّرت مجرى حياته وحياة من معه..وهو جسّد اكتشافه هذا بإنشاء ما سماه "لجان المساجد والأحياء"، جاعلًا من المسجد واجتماع الناس ولقائهم وأدائهم الشعائر الدينية فيه، بؤرة نشاط "سياسي"، دعوي وتنظيمي، يمزج النضالية الشعبوية العروبية واليسارية بالنضالية الدينية الإسلامية. والاكتشاف هذا كان دارجًا في صوَر وأشكال مختلفة في تلك الحقبة وبعدها. ومن صوره ما فعله كثير من المجموعات والشخصيات اليسارية اللبنانية . 
وقد تحوّل "أبو عربي" صوب الألتزام التام بشعائر الإسلام وفروضه، واستخدام عبارات ولغة إسلامية في بياناته وخطبه، وذلك قبل تأسيس "حركة التوحيد ". ويصف سورا هذا التحول بأنه كان يهدف إلى إقامة لحمة عضوية بلا وسائط بين المشيخة وجندها و"الحارة - الأمة" التي صارت إسلامية بعدما كانت عروبية. أو لنقل إنه قدّم المثال الإسلامي على المثال العروبي، معتبرًا أن الإسلام يجدّد قوة "المستضعفين"، أي "الفقراء والكادحين والشعب" في المثال العروبي واليساري. هكذا صار "العنف الإسلامي" ضد "المستكبرين" بديلًا عن العنف الثوري الشعبي، بعدما كان "المستكبرون" هم الرأسماليون و"طغمتهم" و"المارونية السياسية"، وصولًا إلى الإمبرياليين في المثال السابق. وبدأ خليل عكاوي يتحدث عن الشرعية و"الإجماع" الديني والجماهيري المستمدين من صوَر الإسلام الأول، أي إسلام النبي وصحابته من السلف الصالح والأولياء الصالحين.. 
كان خليل عكاوي ثوريًا شعبيًا يحلم بالجماهير الإسلامية وأمواجها البشرية المتلاطمة في حشد مليوني يزحف لتحرير القدس. وتحت إلحاح هذا الحلم، شكل خليل عكاوي وتنظيمه في صيف 1982 إحدى ركائز حركة التوحيد الإسلامي في طرابلس، إلى جانب حركة "جند الله" (السلفية الطرابلسية)، و"حركة لبنان العربي" (التي تعود بأصولها إلى اليسار الماوي و"كتيبة فتح الطلابية"). 
وكان للداعية الإسلامي الطرابلسي باسم ميقاتي و"لجانه الإسلامية المستقلة" في دعوتها إلى إسلام "تربوي" و"ثقافي"، دور في تثقيف جماعات "مقاومة عكاوي الشعبية". فبلال مطر، الذي دعاه عكاوي إلى حمل "شباب المقاومة" على أداء شعائر الإسلام وفروضه، روى أن قائد "المقاومة" استعان بميقاتي وناشطي لجانه لعقد حلقات تثقيفية في باب التبانة، فراحوا ينتقدون فيها الأفكار الماركسية، بناء على مقولات إسلامية لكل من علي شريعتي (الإيراني)، ومحمد باقر الصدر (عراقي، ومن مؤسسي "حزب الدعوة" الإسلامي)، وسيد قطب. وأخذ أولئك الناشطون يتحدثون في حلقاتهم عن صحابة النبي محمد، كأبي ذر الفغاري وغيره من الذين يُعتبرون من دعاة نصرة "الضعفاء والمظلومين" ضد "السلطان الجائر". واستعانت قيادة "المقاومة الشعبية" بخطباء يدعون من على منابر مساجد باب التبانة، إلى الالتزام الديني .
اغتيل خليل عكاوي”أبو عربي” على يد الأجهزة الأمنية السورية التي نصبت له كمينًا في منطقة باب الحديد بعد عودته من اجتماع لحركة التوحيد الإسلامي في منطقة أبي سمراء في 9 شباط 1986 …

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق