اللاوعي الطبقي: كيف تشارك الثوريون والفنانون في إطلاق «السريالية»؟

نُشِرَ هذا المقال على موقع (Socialism Today) في العدد رقم 120 للمجلة (يوليو/أغسطس) 2008. كتبه  محرر المراجعات النقدية في المجلة، البريطاني «ماني ثاين» (Manny Thain)، عضو الحزب الاشتراكي في إنجلترا وويلز، وترجمه لـ«منشور» أحمد الشربيني.
في عام 1938، اجتمع «ليون تروتسكي» (Leon Trotsky)، أحد قادة الثورة الروسية، مع الفرنسي «أندريه بريتون» (André Breton)، واحد من مؤسسي الحركة الفنية السريالية، و«دييغو ريفيرا» (Diego Rivera)، الفنان والثوري المكسيكي، في مدينة مكسيكو سيتي، وصاغوا معًا بيانًا سمَّوه «نحو فن ثوري حر».
تروتسكي كان الكاتب الرئيسي للبيان، وكان في ذلك الوقت منفيًّا ومُطارَدًا من عملاء جوزيف ستالين، لكن النَّصَّ صدر بتوقيع بريتون وريفيرا.
ألقى «ماني ثين»، كاتب المقال، نظرة على البيان في الذكرى السبعين لصدوره؛ لإعادة تقييم التعاون بين الرجال الثلاثة.

تاريخ السريالية المنسي


أطفال يشاهدون لوحة لسلفادور دالي
لوحة لسلفادور دالي - الصورة: Edal Anton Lefterov

شكَّل البيان دعوة للفنانين والكُتَّاب الراديكاليين من أجل حمل السلاح والأقلام والألوان في مواجهة الفاشية والستالينية، اللذَيْن أكد أنهما كانا نظامَيْن يقمعان التعبير الفني كما قمعا المعارضة العمالية الثورية، وكان البيان في الوقت نفسه تعليقًا على الدور المُفترَض للفن والثقافة في مجتمع طبقي.
لكن ما الذي جمع هؤلاء الرجال معًا في هذه اللحظة بالذات؟ كان هذا وقتًا مضطربًا بشدة، أوشك العالم فيه على دخول حرب عالمية، وكان الاقتصاد الرأسمالي العالمي يعاني أزمةً عنيفة. انقضَّت الفاشية على السلطة في إيطاليا والبرتغال وألمانيا، وفي إسبانيا كانت الثورة قد سُحقت للتوِّ، واندلعت الانتفاضات حول العالم، في فرنسا والولايات المتحدة والصين وبلدان أخرى.
أَحكَم ستالين قبضته على السلطة في روسيا، ووضع مئات الآلاف من الاشتراكيين الثوريين وغيرهم من المعارضين أمام محاكمات هزلية، أرسلهم إلى معسكرات للشُّغل.
كانت بيروقراطيته الحاكمة تشدِّد قبضتها للسيطرة على الأحزاب الشيوعية حول العالم عن طريق «الأممية الشيوعية»، وهو ما يعني أن يلعب الاتحاد السوفييتي دورًا يعزز الثورة المضادة في إسبانيا، وأن يخون العمال والفلاحين الناشطين في الحركات الاشتراكية والتروتسكية والأناركية.
أطلق تروتسكي «الأممية الرابعة» عام 1938، بعد إدراك فشل «الأممية الثالثة» في تحقيق أهداف الثورة. كان هذا وقت الاصطفاف، على كل ثوري في ذلك الوقت أن يسأل نفسه: هل يجب الوقوف خلف الرأسمالية أم الستالينية، أم محاربة الاثنتين؟
فَهِم السرياليون كَوْن التغيير الاجتماعي الجذري شرطًا لتحرير الفن من أجل جموع الناس.
لكن ما علاقة السرياليين بكل هذا؟ قد يبدو الأمر غريبًا اليوم بسبب طمس البُعد السياسي للحركة السريالية في تاريخ الفن. نرى الآن الفن السريالي في متاحف الفن الحديث، كما يحقق شعبية ضخمة وتُقام من أجله معارض مُربحة، ويمتد تأثيره إلى الفنون والسينما والأدب بصورة لا يمكن إنكارها.
ربما أشار أحدهم من آنٍ إلى آخر إلى أن السرياليين الأوائل كانوا ثوريين، أو أنهم تأثروا بأفكار الاشتراكية والأناركية، كما يُشار إلى الانقسامات التي وقعت داخل الحركة السريالية إثر انحراف بعض أعضائها عن الخط الثوري الأصلي، لكن الأمر لا يتجاوز ذلك.
يتجاوز الأمر ذلك في الواقع، إذ كانت السريالية ثورية في جوهرها، بل يمكن القول إنها دارت أساسًا حول الثورة لا غير، فقد أراد السرياليون تحطيم السلطة المؤسسية المتحكمة في الفن والفِكر، وحاولوا كسر القواعد الفنية التقليدية. كانوا تجريبيين، وكانوا روادًا في استخدام التقنيات الثورية؛ كالكتابة الآلية.
تمردت الكتابة الآلية على البناءات الأدبية الجامدة بطريقة تسمح لأي شخص بممارستها. فَهِم السرياليون كَوْن التغيير الاجتماعي الجذري شرطًا لتحرير الفن من أجل جموع الناس، وكان هذا يعني ثورةً تنتزع السلطة من الطبقة الرأسمالية الحاكمة، وتضعها في أيدي جماهير الطبقة العاملة.

ميلاد الحركة السريالية


لوحة سريالية لروبيرتو ماتا
لوحة لـ«روبيرتو ماتا» (Roberto Matta) - الصورة: Pedro Ribeiro Simões

انبثقت السريالية من قلب حركة «الدادا» (Dada) الفنية العدمية أوائل القرن العشرين. شهد العالم حالة استقطاب وتثوير عنيفة في السنين الأخيرة من الحرب العالمية الأولى، بلغت أَوْجَها في الثورة الروسية عام 1917، حين استولت الطبقة العاملة على السلطة عن طريق حزب ماركسي جماهيري، وأثَّرت هذه الحالة في الفنانين كما أثَّرت في جميع قطاعات الشعب.
وُلدت السريالية في هذه العاصفة، وتلوَّنت بجهود عدد هائل من الشخصيات والاتجاهات المختلفة، وتضمنت عديدًا من الأفكار التي عبَّرت عنها بمُختلِف الوسائط. كانت السريالية فنًّا ثوريًّا يساريًّا بوضوح.
كتب أندريه بريتون «البيان السريالي» عام 1924، مُعلنًا ميلاد الحركة الفنية الجديدة بقيادته هو و«لوي أراجون» (Louis Aragon) و«فيليب سوبو» (Philippe Soupault).
تأثرت السريالية بالنظريات النفسية الجديدة آنذاك، خصوصًا التحليل النفسي الفرويدي.
كان التطلُّع الأهم للسريالية هو إشراك جميع الناس في الممارسة الفنية، لا باعتبارهم متفرجين سلبيين، بل منتجين للفن كذلك.شارك السرياليون في النشاط السياسي الطامح إلى التغيير الاجتماعي والاقتصادي الذي يؤسس لهذا الهدف، بل دارت مناقشات رسمية داخل الحركة عمَّا إذا كان من واجب أعضائها مقاطعة الأحزاب الشيوعية أم لا.
لعب بعض النساء أدوارًا مهمة في تطور الحركة السريالية الفني والسياسي، رغم تركيز التاريخ الرسمي على الفنانين الرجال.
بحسْبِ كتاب «نساء سرياليات» مثلًا، كانت «دنيس نافي» (Denise Naville) تكرِّس جهودها لمقاومة النظام الستاليني مع زوجها «بيير نافي» (Pierre Naville)، والاثنان من رواد الحركة السريالية. وكانت «دنيس» خطًّا واصلًا بين السرياليين الفرنسيين والفنانين الألمان، وترجمت كتابات تروتسكي إلى الألمانية، كما ترجمت بعض أعمال كارل ماركس وفريدريك إنغلز وغيرهما.
تأثرت السريالية بالنظريات النفسية الجديدة آنذاك، خصوصًا التحليل النفسي الفرويدي، وعرَّف بريتون السريالية بأنها «تلقائية نفسية كاملة، يسعى الفنان بها إلى التعبير عن الوظيفة الحقيقية للفكر، بالكلام أو الكتابة أو أي وسيط آخر. إنها إملاءات الفكر المباشرة في غياب كامل لسلطة الوعي، ودون أي هموم جمالية أو أخلاقية». كان يجب تحرير الفكر من قيوده كما وَجَبَ تحرير المجتمع من سلطة الطبقة الحاكمة.
نشرت الحركة السريالية عددًا من الدوريات، مثل «الثورة السريالية» (La Révolution surréaliste) بين عامَي 1924 و1930، وشارك بيير نافي في تحريرها، و«السريالية في خدمة الثورة» (Le Surréalisme au service de la révolution) بين 1930 و1933، وأسهمت هذه المنشورات في سَبْك الحركة ونشر أفكارها خارج فرنسا.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق